الطاعون الأعظم.. حينما فنيت الأرض وذهب الجيل
في عام تسع وأربعين وسبعمائة للهجرة (749هـ)، حلّ بالأرض ما لم تشهده من قبل في مقدار الفناء والجائحة. إنه الطاعون الأعظم، أو كما سُمّي في الغرب بالطاعون الاسود ، غير أنه لم يكن أسودَ لسواد لونه، بل لسواد أيامه، ودمار آثاره
عمّ الطاعون أقطار العالم الإسلامي، فاجتاح الشام، ومصر، والعراق، والحجاز، واليمن، والمغرب، بل لم تسلم منه بادية ولا حضر، ولا جبل ولا واد، ولا مدينة ولا صحراء
يقول ابن خلدون في مقدمته الخالدة، وقد شهد الطاعون بنفسه:
“ذهب أهل الجيل، وفنيت الطبقة، وخلت البلاد من ساكنيها، وعادت ديارهم خرابًا، وأخربت الأمصار، وأقفرت القرى، وخربت المعالم والبيوت، وتبدلت الأحوال كأن لم تغنَ بالأمس، وانقطع النسب، ودرست المعالم، ولم يبقَ من أخبارهم إلا الأسماء..
كتب ابن حجر العسقلاني، وهو ممن عايش الوباء، في كتابه بذل الماعون في فضل الطاعون:
“كان الوباء عامًا في المشرق والمغرب، حتى قُدّر أن نصف أهل الدنيا ماتوا فيه، وفنيت مدن وقبائل، ولم يبقَ من كثير منهم أحد يُذكر.”
“في بعض البلاد أُحصي في اليوم الواحد سبعون جنازة، وفي أخرى لم يبق إلا العجائز والأطفال، وكان الناس يُدفنون بلا كفن ولا غسل من شدة الهول.
يقول ابن بطوطة، وقد شهد الطاعون في دمشق سنة 749هـ:
“أمر نائب السلطان أرغون شاه مناديًا أن يصوم الناس ثلاثة أيام، فلا يُطبخ فيها طعام، ثم خرج الناس كلهم يوم الجمعة إلى الصحراء: الأمراء حفاة، والقضاة، والفقهاء، والعامة، والنساء، والأطفال، كلهم باكون متضرعون. وخرج اليهود بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ومكثوا حتى الزوال يتوسلون إلى الله، فانخفض البلاء قليلًا، وكان عدد الموتى في اليوم الواحد ألفين في دمشق، وبلغ في مصر والقاهرة أربعة وعشرين ألفًا.
في أوائل الإسلام، ذكرت بعض المصادر أن عدد سكان مصر كان نحو عشرين مليونًا، لكن بعد الطاعون، وفي عهد محمد علي باشا (بداية القرن 19م)، انخفض العدد إلى مليوني نسمة فقط، كما وثقه كتاب ملامح مصر في عهد محمد علي.
بهذا، يبدو أن الطاعون لم يكن مجرد بلاء عابر، بل قصم ظهر التمدن والحياة في العالم العربي، وترك فراغًا حضاريًا وسكانيًا لم يُملأ إلا بعد قرون
لقد كان طاعون 749هـ لحظة فاصلة في تاريخ العرب والمسلمين، فانتهت به أجيال، وانقطعت أنساب، وتغيرت خرائط العمران والاجتماع والسياسة، حتى قال بعض المؤرخين:
“بدأ تاريخ جديد بعد الطاعون.