رد الدكتور عبدالرحمن الفريح
الجزيره العدد 12523 بتاريخ 11 من شهر 1 لعام 2007
الدكتور عبدالرحمن الفريح يرد
للصحابة حقّ التقدير والاحترام
نشرت جريدة الجزيرة تعليقاً للأخ عبدالله بن عبار العنزي تناول فيه مقالاً لي بعنوان: (مسلسل خالد بن الوليد ووقفة مع تاريخ صدر الإسلام)، وقال إنني ألصقت ردة العرب بقبائل ربيعة.. وقد تملكني العجب من أخي الذي لم يوجه العتب إلى نفسه لأنه هو الذي أتى بما يؤاخذني عليه، وهذه هي عباراته تشهد على ما أقول:
قال الأخ الكريم: كان يقصد الكاهنة سجاح متزوجة في تغلب وكانت تغلب أخوالها كما كان رهطها حلفاً مع تغلب وأقبلت ومعها الهذيل بن عمران في بني تغلب بن وائل من ربيعة وعُقة بن هلال في النمر بن قاسط من ربيعة وزيادة بن فلان في إياد والسليل بن قيس في بني شيبان من بكر من ربيعة وكانت قد تنبأت بعد موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجزيرة الفراتية، فأقبل معها هؤلاء الرؤساء لتغزو المدينة وتقاتل أبابكر.
بعد هذا ذكر أنها وقفت على حدود يربوع ولما رأت أن أمرها لم يتم في يربوع قالت لجندها من ربيعة وإياد عليكم باليمامة ثم نهدت بمن معها إلى بني حنيفة وكانت راسخة في النصرانية، قد علمت من علم نصارى تغلب وعادت إلى الجزيرة الفراتية إلى دار تغلب بعد صلحها مع مسيلمة على غلات من غلال اليمامة.
هذه هي عبارات ابن عبار واضحة صريحة وقد بيّن لنا من أين جاءت هذه الحملة وفيمن ظهرت الكاهنة وأين وفيمن تكهنت وتنبأت وإلى أين سارت ومن كان يتبعها ويسير وراءها وإلى أين عادت؟.
قبل هذا كان ابن عبار تحدّث عن أيام العرب وليسمح لي بالتعليق على حديثه بالآتي:
1- إنّ مقدم شيوخ ربيعة من الجزيرة الفراتية في الخبر المتقدم إنما هو تحت مظلة فارسية وهو امتداد لحروبهم الجاهلية فأبو عبيدة والسكري والنويري وابن حبيب وشراح النقائض طالما ذكروا أن بني ساسان كان يجهزون ربيعة للغزو حدث هذا على سبيل المثال في يوم العظالى ويوم جدود ويوم ذوي طلوح ويوم الصليب.
2- إنّ هؤلاء الشيوخ موتورون بمصارع فرسانهم الذين اصطلمهم ذؤبان العرب فالسليل يطلب ثأر بسطام والحوفزان ومفروق والهذيل الأصغر يطلب ثأر يوم نطاع.
3- لم يفلح هؤلاء في مبتغاهم فقد اجتمعت سراة بني حنظلة وأشراف يربوع يرأسهم عطارد رضي الله عنه إلى سمرة بن عمرو رضي الله عنه فهزموا هؤلاء القواد كما يذكر الطبري وابن الأثير وغيرهما وأسروهم ثم أطلقوهم وظلت مازن تترصد الهذيل فيما بعد حتى قذفته في بئر سفار في سواد العراق وأهالت عليه التراب.
4- كان لربيعة ثلاثة بيوت أولها بيت بسطام وله ثلاث وقائع أرجله قوم صياد الفوارس في الأولى وأسروه في الثانية وقتلوه في الثالثة والبيت الثاني بيت الحوفزان حفزه قيس بن عاصم بالرمح في خرابة وركه ومات من تلك الطعنة بعد عام والبيت الثالث بيت مفروق قتيل يوم العظالى كما يذكر أبو عبيدة ومصادر الأيام والمدفون في ثنية مفروق.
5- في يوم ذي طلوح وهو يوم الصمد قدم بسطام من سواد العراق فانهزم في ذلك اليوم وهرب وكان معه من الزعماء أبجر والحطم فتم أسرهما وفي حرب الردة كان أبجر والحطم على رأس ردة البحرين مؤيدين بالفرس والمناذرة فقصم قيس بن عاصم رضي الله عنه ظهر الردة هناك وأطاح برأس زعيمي المرتدين كما كان يعلى بن أمية التميمي رضي الله عنه قد قضى على ردة خولان في اليمن وكانت اليمن قد شهدت أكثر من ردة منها ردة ونبوءة الأسود الكذاب وهو من بني عجل بن لجيم من ربيعة وعاش في اليمن على ما تذكر كتب النسب كأبي عبيد بن سلام.
6- إن هذه الوقائع ومعها وقائع أخرى هي أيام ربيعة في الجاهلية أما ما سبقها في العهد كحرب البسوس وخزاز فهي من مخترعات الوضاعين في معظمها في الإسلام وهذه هي بعض النقاط التي تبين ذلك:
أ- قال عامر بن عبدالملك بن مسمع من بكر وهو راوي تلك الحرب إن قتلاها كانوا ثمانية نفر من تغلب وأربعة من بكر.
ب - قال ياقوت إن الأحوص العامري من مضر هو صاحب يوم خزاز وادعت ربيعة بعد زمن طويل أن كليباً هو صاحبها. وقيل رئاسة يوم خزاز كانت لزرارة بن عُدس.
ت - لم يستطع مرة حماية ابنه جساس فقال كما في رواية ابن الأثير الحق بأخوالك ليحموك فقتل قبل أن يصلهم.
ث - قال ابن سعيد في نشوة الطرب إن المهلهل زعيم ربيعة لم يستطع منع نكاح ابنته في اليمن وقد جاور في قوم غير ذوي نباهة فأرغموه على نكاح ابنته وأولدها اليمانية وعلى هذا كتب الانساب والتاريخ والأدب وهذا دليل على هوان تلك الحرب وضآلة شأنها.
ج - قال الباحث السوري الدكتور إحسان النص إن يوم خزاز يوم محدود وليس بين ربيعة واليمن وإن قتلى حرب البسوس لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، وذهب الدكتور طه حسين في كتابه في الأدب الجاهلي إلى أن شعر ربيعة المنسوب لابن حلزة وعمرو بن كلثوم والأعشى مصنوع مخترع في الإسلام ولا تعرفه عرب الجاهلية، وإن شعر العرب الجاهلي إنما هو شعر مضر، شعر أوس بن حجر وتلميذيه النابغة وزهير، وإن فخر ربيعة إنما ظهر في الإسلام وصنعه الوضاعون لوجود النبوة والخلافة في المضرية.. ويضاف إلى ما ذكره الدكتور طه حسين أن اللغة العربية الفصحى هي لغة مضر على ما عند علماء اللغة في القديم والحديث.. وادعى البعض في الإسلام وجود حلف بين اليمن وربيعة في الجاهلية فقال الهمداني إن الملوك لا تحالف الرعية.
ح - إن بسطاماً والحوفزان ومفروقاً وعوفاً بن محلم وجثامة وابن الجزور كانوا من الفرسان الذين شهدوا أيام ربيعة وبمصارعهم مع عدد من فرسان قومهم أخلت ربيعة ساحة جزيرة العرب إلى أطراف العراق، قال أبو منصور الأزهري الصمان في قديم الدهر لحنظلة والحزن ليربوع والدهناء لجماعتهم.. والرمل لسعد.
خ - قال الشيخ حمد الجاسر كان فَلْج المعروف باسم الباطن من منازل بكر فحلت عليها تميم فأزاحتها إلى نواحي العراق وانتشرت العنبر ومازن هناك، وقال ومعروف أن فليجاً وما حوله من منازل بكر حتى أزاحتهم تميم عن تلك الجهات، قال النويري في نهاية الأرب أدركت بنو عمرو بكراً في غول فهزمتها وقال لغدة منازل بني عدي من العنبر بطن فَلْج، وقال العسكري الطنب منزل صاحب رسول الله الربيب بن ثعلبة العنبري التميمي كان يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه بنوه وقال الشيخ حمد الجاسر بلاد بني ضبيعة كانت في جهات البحرين حتى حلت بنو تميم تلك البلاد فانزاحت ضبيعة وغيرها من قبائل بكر إلى جهات أسفل وادي فَلْج ثم إلى سواد العراق. وقال أبو عبيدة لما أسر صياد الفوارس بسطاماً قال له والله لأضعنك في أعز بيتين من مضر عمرو بن جندب من العنبر من عمرو من تميم أو عمرو بن جناب.
بعد هذا هناك أمر يحسن التنبه له وهو إن نزوج ربيعة إلى أرياف العراق لا ينطبق على حنيفة التي استقرت في اليمامة ولا عبدالقيس.
لعل ما تقدم هو أهم ما يعني الأخ ابن عبَّار لكن لابد من دفع فرية للكلبي أوردها الأخ الكريم فيها اتهام للزبرقان وعطارد بالردة ودفع الفرية يأتي من خلال رواية تاريخية محققة تنسجم مع ما في مصادر الصحاح والسنن والمسانيد وما يتفق معها مما ورد في كتب التاريخ والأدب وهذه هي الرواية:
قبل أن ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بعث رجلاً إلى الزبرقان وقيس بن عاصم رضي الله عنهما يستنفرهما على قتال طليحة ومسيلمة، وكان هذان الصحابيان ممن وفد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع القعقاع والأقرع وابن الأهتم رضي الله عنهم فأجاز الرسول عليه السلام إسلامهم، واستعمل الزبرقان وقيساً مع آخرين على صدقات قومهم وكان من صحابته عليه السلام صفوان التميمي وواقد بن عبدالله وهما من خيار المهاجرين وممن صحبه وروى عنه الربيب بن ثعلبة العنبري نزيل الطنب بفلْج ومن الصحابة المجاهدين الأفكل واسمه ربعي بن عامر من بني عمرو أصهار النبي عليه السلام، فقد تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وكانت قبله زوجة لأبي هالة التميمي رضي الله عنه وتربى أبناؤه منها في بيت النبوة ولقد كذب رضاع الحقد الشعوبي المروجون لأفكار الزندقة، الذين ملأوا المصنفات بقولهم: إنه ليس للنبي صلى الله عليه وسلم من خديجة من البنات إلا فاطمة وإن البنات الأخريات هنّ بنات زوجها الأول.
توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فثبت هؤلاء الأعلام من أعلام الإسلام على الإسلام ونهض القعقاع والأقرع ينهيان عن التردد في أمر الزكاة وسار عطارد في سراة بني مالك وأشراف يربوع فنزلوا على سمرة بن عمرو العنبري أول حاكم في نجد بعد القضاء على الردة، ومضى صفوان بإبل الصدقة إلى المدينة المنورة.. وخطب الزبرقان في قومه ثم نهض بالصدقة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فكانت أول صدقة ترد إلى المدينة فكبر أهلها فرحاً وانضم الزبرقان إلى جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه فكان على جناح الجيش في وقعة بُزاخة وأسهم صمود الأحنف وعمه المتشمس في ثبات قومهم على الإسلام وقُضي على فتنة الردة في اليمامة، وتولى أمرها سمرة بن عمرو، وفي الطرف الشرقي من جزيرة العرب سار قيس بن عاصم رضي الله عنه بجيش المسلمين بقيادة العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه حتى بلغ غايته وأسهم قيس إسهاماً كبيراً في القضاء على الفتنة هناك.
وانكمش خالد ومن معه من أصحابه وخرج من اليمامة يريد العراق فسار بين يديه الزبرقان وما تقدم عن وفاء الزبرقان وثبات هؤلاء الأعلام من الصحابة الكرام على الإسلام وجهادهم في حرب الردة، القعقاع والأقرع وعطارد وسمرة والزبرقان وقيس بن عاصم.. إلخ.. مصدره كتب الصحاح والسنن والمسانيد وما ورد متفقاً معها عند الطبري وابن أعثم والواقدي وابن اسحاق والبلاذري وغيرهم، وهؤلاء الأعلام من الصحابة لهم حق التقدير والاحترام والواجب تدوين مآثرهم والاحتفاء بها وبمواقفهم المشرفة أثناء فتنة الردة.. وقد تطابقت نصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة على فضل الصحابة ورفعة مكانتهم وعظيم حقهم على المسلمين.
أما الخبر المنقول عن الكلبي الذي أورده ابن عبار وفيه اتهام لبعض هؤلاء الصحابة بالردة كالزبرقان وعطارد وابن الاهتم فهو خبر ساقط لا يعتد به لأنه يصطدم بما أسلفناه من مصادر تنص على إسلامهم وعلى ثباتهم وجهادهم، ولم يرد ما ينفي ذلك من مصادر تماثلها بل الذي ورد عكس ذلك وهو ثباتهم على الإسلام وتصديهم للردة ولا ينكر هذا إلا جاهل أو متعصب أو مكابر من أهل المراء.
وخبر الكلبي ورد في عدد من الكتب والكلبي ليس بشيء كما قال يحيى بن معين وهو من أهل الوضع والإلحاد وممن يطعنون في الصحابة، كما قال ابن تيمية ويروي العجائب والأخبار التي لا أصول لها وأخباره في الأغلوطات أشهر من أن يحتاج إلى الأغراق في وصفها كما قال ابن حبان.
قال الشيخ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري في مقدمة كتاب بكر بن وائل إن التأليف في الأنساب قائم على كذابين من أمثال الكلبي وابنه، وقال إن الكلبي اتخذ الأنساب لترويج الأكاذيب والمثالب.
وللكلبي وابنه هشام كتب شُحنت بما يندى له الجبين من السوءات ولا يكاد يخلو بيت رفيع من بيوت العرب إلا وطعنا فيه غير أن ربيعة أخذت نصيب الأسد من تشنيع الكلبي فطعن في أخلاق زعمائها وشكك في أنسابهم وبالغ في ذلك وما أجدر الباحثين بالتصدي لهذه السموم والتنبيه إلى مخاطرها وفساد نوايا القائلين بها كالكلبي وابنه هشام وأمثالهما.
لم يكن لربيعة في الإسلام إلا بيتان شهيران فيهما الزعامة والمشيخة وباقي بيوت ربيعة دون هذين البيتين، وقد صب الكلبي جام غضبه وحقده على هذين البيتين طعناً وتشويهاً وتشكيكاً، فقال عن البيت الأول وهو بيت آل مسمع من كبراء وائل إن رجلاً اسمه قلع علج من أهل عمان ظريف اللسان ضمه عمرو بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة واستلحقه فولد قلع شهاب بن قلع وولد شهاب شيبان وولد شيبان مسمعاً وفي ذلك قال الأخطل :
ألستم بني قلع من البحر أصلكم *** سيابجة ترمونني نظرا شزرا
وقال آخر:
أبلغ بني مسمع مني مغلغلة *** والنصح أحسن والمغبون مغبون
لستم بأول أعلاج ندهقنكم...
والبيت الثاني في ربيعة من شيوخ وائل آل سدوس الذين فيهم آل شقيق قال الكلبي أخزاه الله إن سدوس بن شيبان ما هو إلا سدوس بن حنبل بن الجماهر بن الأشعر من قحطان لا من ربيعة ولا من بني عدنان أولاد إسماعيل وفي ذلك قال ابن الواقفية السدوسي:
وقومي الأشعرون وإن نأوني ***أحــن إلـى لـقائهـم حنينـا
فـلسـت بـبـائـع قـومي بـقـوم *** ولو أن اغتربنا أو جفينا
هكذا يطعن الكلبي في بيتي وائل الكبيرين فيزعم أن الأول من العلوج والثاني من اليمن.. بل زعم أن مولى مملوكاً لبني تميم أبق ثم عاد واعتقوه وانتقل إلى قبيلة أخرى وصار عند أحد ولد أفصى بن دعمي ثم أصبح جداً لقبيلة مشهورة!! ولعل ما انتشر في كثير من الكتب كقصة المقال وجمهرة الأمثال ومجمع الأمثال والمستقصي وخزانة الأدب واللسان والنشوة من أن خزيمة بن نهد القضاعي أسقط يذكر بن عنزة في بئر وحلف إلا يصعده حتى يزوجه أخته فاطمة بنت عنزة لعل هذه القصة من صنع الكلبي خاصة، وقد ورد فيها أن ربيعة حميت ضد قضاعة والكلبي قضاعي وقد أهدى للشعوبية مخازي ومعايب العرب والمسلمين وهي من نسج خياله.
ومن الشعر الذي ورد مع هذه القصة قول النهدي:
إذا الجوزاء أردفت الثريا *** ظننت بآل فاطمة الظنونا
هذه القصة ما أقربها من دسائس الكلبي وهي قريبة من طعنة في أنساب بني مسمع وآل سدوس من بكر بن وائل ورميهم بالمفتريات.
د. عبدالرحمن الفريح باحث في التاريخ والحضارة