عرض مشاركة واحدة
قديم 08-10-2009, 12:40 AM   #18
باحث في التوثيق العثماني ومؤلف
 
تاريخ التسجيل: Aug 2009
المشاركات: 78
افتراضي

((2))

مصادر معلومات الدولة العثمانية عن قبائل الجزيرة العربية

لقد شكلت الولايات والمتصرفيات العثمانية مصادر معلومات الدولة عن قبائل الجزيرة العربية، التي أطلقت الوثائق عليها لفظ "العربان". وكانت تلك القبائل تعيش في أماكن قريبة منها بشكل دائم أو تنتقل إليها حسب الموسم. وكان أكثر ما استفيد منها من تلك الأماكن ولايات بغداد والبصرة والشام وإمارة مكة المكرمة وولاية اليمن ومتصرفية عسير. غير أنه لما تم افتتاح قناة السويس، وبعد أن قام مدحت باشا بحملته على الأحساء (عام 1288هـ/1871م) فقد كثرت مصادر الدولة للمعلومات. وانطلاقاً من ذلك فقد زاد تأثير نفوذ الدولة على القبائل والعشائر البدوية التي كانت تعيش في وسط الجزيرة العربية، دون احتكاك مباشر بالدولة. والحقيقة أن البحث في تاريخ إحدى قبائل شبه الجزيرة العربية أو عشائرها، لا يتأتى إلا بالحصول على قسم من المعلومات أو الوثائق المتعلقة به في الأرشيف العثماني. إضافة إلى أنه بالنظر إلى أن الوثائق الواردة من مختلف المراكز الإدارية (بغداد، البصرة، اليمن، الشام، مكة، المدينة وغيرها) هي مصنفة بشكل عشوائي تحت مختلف أنواع التصنيفات، ولذلك فإن البحث سوف يستغرق وقتاً أطول كما هو أمر طبيعي. ومن جهة أخرى فإنه لا يمكن القول بأن الوثائق الموجودة بين أيدينا، تحوي معلومات كافية. إذ إن هذه الوثائق تعكس بشكل عام الأحداث التي جرت في فترة كتابتها. والمعلومات التي تذكرها عن القبائل تزداد أو تقل حسب تأثير القبائل في تلك الأحداث. يضاف إلى ذلك أنه بالنظر إلى أن أفراد تلك القبائل لم يكونوا ملزمين بالتجنيد، ولم تكن تلك القبائل تدفع ضرائب منتظمة للدولة، فإن المعلومات عنها تعد قليلة بالمقارنة بغيرها من الموضوعات. وذلك بسبب عدم وجود سجلات عنها في التشكيلات العسكرية والمالية. ولذلك فإن المعلومات تبدو كثيرة أو قليلة عن القبائل البدوية، حسب الأهمية الاستراتيجية للأماكن التي كانت تتجول فيها([1]).
وعلى هذا فإن أهم المواقع الاستراتيجية في المنطقة فيما يخص الدولة العثمانية، هو طريق الحج. فالمعلومات عن القبائل أو العشائر القاطنة على هذا الطريق الذي أولته الدولة جل اهتمامها، كثيرة جداً. وعلى العكس من ذلك، تعد المعلومات عن القبائل القاطنة في المواقع الأخرى قليلة. وكانت القبائل القاطنة في الجزيرة العربية كثيرة. وعلى الرغم من وجود معلومات كثيرة في الوثائق العثمانية عن تلك القبائل بشكل عام، فإن المشكلة تكمن في الوصول إليها؛ بسبب عدم تصنيف الوثائق تصنيفاً دقيقاً يساعد الباحث في الوصول إلى الوثيقة المطلوبة سريعاً، إضافة إلى أن المصنفين قي الأرشيف العثماني يجهلون كثيراً أسماء القبائل وأسماء شيوخها. وقد تجد معلومات مستفيضة عن إحدى القبائل تأتي عرضاً ضمن الموضوع العام للوثيقة. ومن هنا فإن المعلومات الثانوية التي تذكر في الوثائق، قد تكون أهم من الموضوع الرئيسي لها. ولذلك فلابد من التروي والتؤدة والصبر؛ للوصول إلى الوثائق المطلوبة.
وعلى الرغم من الاهتمام الذي كانت تبديه الدولة العثمانية بقبائل الجزيرة العربية المهدِّدة لوجودها في كثير من الأحيان ولا سيما في الفترة الأخيرة من حكمها، إلا أن إلمام الباب العالي بأوضاع القبائل لم يكن متلائماً مع ذلك الاهتمام؛ فهناك عدد من الوثائق المحفوظة في الأرشيف العثماني، يبين أن الباب العالي كان يجهل كثيراً من المناطق الإدارية في الجزيرة العربية. وهذا ينطبق أيضاً على القبائل. يضاف إلى ذلك تسمية كثير من قبائل الجزيرة العربية وشيوخها بأسماء خاطئة، كما سبق بيانه، ووجود الإبهام في بعض الأسماء.
كما أن عدم تصنيف الوثائق الخاصة بالقبائل، شكل صعوبة أخرى أمام الباحث في الوصول إلى الوثيقة في فترة وجيزة، وأدى إلى مضاعفة الجهد والوقت. فكثير من توجيهات التكريم السلطانية يخلو من ذكر أسماء شيوخ القبائل المكرّمين، حيث تذكر جملٌ مبهمة من نحو: شيوخ العربان في الحجاز، أو، تقديم الرواتب المخصصة للأشراف وشيوخ العربان، أو، النزاع الذي وقع بين قبيلتين في المنطقة الفلانية..إلخ. وفي مثل هذه الحالة يحتاج الأمر إلى الاطلاع على كل وثيقة على حدة، الأمر الذي يؤدى إلى بذل المزيد من مضاعفة الجهد والوقت..

سياسة الدولة العثمانية في التعامل مع قبائل الجزيرة العربية

كانت الدولة العثمانية قائمة على سياسة مركزية؛ تدار شؤونها الداخلية من العاصمة إستانبول، كما هو الأمر أيضاً في سياستها الخارجية، وبخاصة فيما يتعلق بأمن الدولة ووحدة أراضيها والحفاظ على كيانها ضد أي تمرد. ولم يمنع ذلك الدولةَ من منح بعض الصلاحيات الإدارية للولايات والمتصرفيات والأقضية، في اتخاذ قرارات تتناسب مع السياسة العامة للدولة، ولا سيما بعد تشكيل المجالس الإدارية في كافة المناطق الإدارية الخاضعة للنفوذ العثماني، وبالترتيب التسلسلي بدءاً من الأقضية وانتهاءً بالولاية.
ومن الأمور الطبيعية أن تكون القرارات المتخذة في المناطق الإدارية التي كانت تتشكل في الغالب من القائمقام والقاضي وبعض الأعيان من الأهالي متلائمة مع المصلحة العامة للدولة. فإذا وقعت حادثة ما في المنطقة المعنية، يتم تدارسها ويرفع الأمر بشأنها إلى المتصرفية أو الولاية، التي تضيف إليها رأيها وترفعها بدورها إلى نظارة الداخلية. فيُتخذ القرار الذي يتناسب مع سياسة الدولة في تلك المرحلة..
ولكون تلك السياسة المركزية مبنية على التوازن بين مختلف القوى، سواء في منطقة معينة أو في ولاية بعينها، فإن المصلحة العامة للدولة تقتضي اتباع تلك السياسة. وهذا الأمر ينطبق على ولاة المناطق أيضاً. كما ينطبق على القبائل القاطنة في تلك الولاية.
وكانت الدولة العثمانية حريصة جل الحرص على استمالة القبائل العربية، وعلى عدم نشوب أي تمرد، من شأنه الإخلال بالأمن وإحداث فوضى في النظام السائد في البلاد. وحتى إذا ظهر شيء من ذلك، كانت تعمل على عدم امتداده إلى القبائل المجاورة.
ومن الأمور الجديرة بالذكر أن الدولة العثمانية كانت تهتم بتعيين الإداريين الملمين بأوضاع القبائل في المناطق الإدارية بالجزيرة العربية، ومطلعين على العادات القبلية وأعرافها، إضافة إلى إلمامهم باللغة العربية. وذلك زيادة في حرصها على التفاهم المباشر مع شيوخ القبائل العربية. وإضافة إلى ذلك كانت تُصدر الأوامر لولاة المناطق بين الحين والآخر، في ترصد أوضاع القبائل، وإرسال التقارير اللازمة عنها إلى إستانبول، والعمل على إصلاح شؤونها، للتقليل من الأضرار التي تنجم عن أعمالها. وفي حال ثبوت تقصير من جانب الوالي أو المتصرف العثماني تجاه إحدى القبائل أو أحد شيوخها، فإنه كان يعزل من منصبه.
يضاف إلى ما سبق ذكره أن الدولة كانت تهتم بتعيين شيوخ القبائل على قبائلها؛ فإذا ما توفي أحد الشيوخ، أو انتقل الحكم إلى شيخ آخر في القبيلة بحكم النفوذ والقوة، فإن الدولة في غالب الأحيان كانت توافق على هذا التعيين الجديد، ولا تبدي معارضتها على ذلك، إلا إذا رأت أن الشيخ الجديد سوف يقاوم نفوذها بقوة.. وكانت المخصصات المالية للشيخ المتوفى تنتقل تلقائياً وبقرار صوري من الدولة إلى الشيخ الوريث، كما يتضح العديد من الأمثلة على ذلك.
وينبغي أن يُعلم أن وراء كل مكرمة سلطانية لشيخ من شيوخ القبائل بمنحة مالية، أو تقديم وسام عثماني أو خلعة، أو توجيه منصب إداري أو فخري أو غير ذلك من المنح المقدمة لشيخ من شيوخ القبائل، كان نتيجة لخدمة قدمها الشيخ، سواء في توفير الأمن، أو التقيد بدفع الضرائب، أو غير ذلك من الأسباب. بخلاف الصرة الهمايونية ([2]) المرسلة لأهالي الحرمين الشريفين، التي أعدّها العثمانيون واجباً دينياً، ينبغي عليهم القيام بها تجاه مجاوري الحرمين الشريفين. ومن جهة أخرى فإن تعميق البحث في السبب الذي أدى إلى تقديم المنحة السلطانية، سوف يجرُّ الباحث إلى معرفة الحدث الذي وقع قبل ذلك، ويساعد في تحليل الموضوع. وفي معظم الأحيان نجد الوثائق في إيراد السبب المذكور، وفي ذكر الفوائد التي تجبى من تلك المنحة، سخية بدرجة كبيرة. ومن جهة ثالثة ينبغي ألا يستبعد الباحث من مخيلته أن الدولة إذا قدمت منصباً فخرياً لأحد شيوخ القبائل، لا يدل ذلك بالضرورة على مرضاتها منه؛ وإنما قد يكون اتقاءً لما يمكن أن يجرَّه الشيخ للدولة من أحداث لا يحمد عقباها. لكن في كل الأحوال نجحت الدولة العثمانية في حكمها المترامية الأطراف، سواء في ربط القبائل بها، أو في سياستها الرامية إلى الحفاظ على الأراضي التي ضمتها لحكمها فترة طويلة. ولعل السبب الأقوى في كل ذلك كونها دولة الخلافة، التي ترعى شؤون المسلمين، وتحافظ على وحدتهم، وتحميهم من الأخطار الداخلية والخارجية المحدقة بهم؛ وتطلب منهم في مقابل ذلك مراعاة أوامرها الواجبة الاتباع. ومتى ابتعدت عن واجبها تجاه رعاياها المسلمين، باتباع سياسات مخالفة لرسالتها، كانت المقاومة لحكمها، وعدم الاستماع لصوتها أو الخضوع لطاعتها..

([1]) عشيرة عربية في خليج البصرة: عربان العجمان (1820-1913م)/زكريا كورشون.– مجلة بلتن (التركية). – ع 236، س 58 (نيسان 1999م). ص 123-163

([2])الصرة الهمايونية: تعني كيس النقود. واستخدم للهدية أيضاً. وأطلقت في المعاملات المالية على مبلغ خمسين ألف آقجه. كما استخدم في المبالغ المالية التي كانت ترسل من لدن السلاطين العثمانيين إلى مجاوري مكة المكرمة والمدينة المنورة من الحكام والسادة والأشراف والأعيان والفقراء. المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية/سهيل صابان.- الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1421هـ/2000م. ص 144
د. سهيل صابان غير متواجد حالياً