عرض مشاركة واحدة
قديم 03-24-2016, 02:28 AM   #1
مؤرخ قبائل السلقا
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
المشاركات: 1,131
افتراضي المشيخة:بمفهومها التاريخي

"المشيخة: بمفهومها التاريخي"

المشْيخة نظام إجتماعي قبلي, وعُرف صحراوي تقليدي وُجد ليحفظ للقبيلة أمنها وقوتها وقدرتها على التماسك, وهي وسيلة لضمان الأمن والأمان, لقبائل كانت تعيش اَنذاك حياة الفوضى والصراع وعدم الإستقرار, وطبقاَ لمنطق التطورالتاريخي وهي سنة تتكرر في تاريخ البشر,كان من الطبيعي أن تستجد مفاهيم وأعراف وتندثر قيم وتقاليد, نتيجة تراكمات تاريخية وإجتماعية وسياسية, لكنها في النهاية أفرزت لنا حالة من المفاهيم والأخلاقيات لم تكن معروفة من قبل,إن منطق البادية التي عاشت حياة متفرقة في قبائل متنازعة متصارعة, جعلت من طبعها النفور والتمرد وعدم الخضوع لأي سلطة كانت, وهذا لاشك إنعكس على سلوك الفرد وثقافته, الذى نشأ يحمل هذه الروح خارج دائرة عقدة القهر والاضطهاد وضغط الطبقية الإجتماعية, فالبدوي بطبيعته الفطرية لم يصب برهاب المشيخة أو بتقديس الرموز والأسماء أياَ كانت هذه الأسماء,لقد كان واعياَ تماماَ لفرديته والإعتزاز بنفسه,لذا إستقام فهمه في أن المشيخة تقاس على منافع معنوية تلامس مابداخله من معاني وقيم وأخلاق, وهي وسيلة بنظره لاتظرب على يد المروءة والشهامة بشى, طالما تحقق له هذه المفاهيم والقيم التي يعتز بها, وهذه لاشك مفاهيم راقية كانت المجتمعات السابقة تحرص على التمسك بها, وتضحي في سبيل المحافظة عليها بالغالي والنفيس, لذلك كانت هذه المفاهيم والرؤى منسجمة تماماَ مع شخصية البدوي وفكره, وهي الأقدر على تحقيق السعادة له في حياته, القائمة أساساَ على المعاناة والنزاع الدائم الذي لاينتهي, ولعل هذا ماأشكل على "المستشرقة البريطانية جرتلود بل" في أن تجد صعوبة ومشقة في فهم هذ المنهجية السلوكية حول نظرت البدوي ومفهومه للمشيخة, عندما قالت: "إن المشيخة عند البدو إصطلاح غير دقيق" وهذا القول يمكن أن نعتبره صحيح لو أن"جرتلود بل" لم تقارن مشيخة البادية بمشيخات الحاضرة, وهذا بالطبع مالم تدركه المس بل؟!

فالمشيخة عند البادية لها اَليات وقواعد وهي قطعاَ تختلف في الكثير عن مشيخات الحاضرة وقوانينها, فالزعامة عند البادية كانت تؤخذ بالجهد الفردي الذاتي, خصوصاَ ممن تتوفر لديهم صفة الشجاعة والإقدام, أوالصفات الأخرى المحمودة, وهي ميزة لاتمنح ولاتوهب, لذا جاءت هذه الزعامة مشروطة بقوانين وأخكام وقيود,لايمكن تجاوزها في المجتمع القبلي تحت أي ظرف كان, لهذا كان من الطبيعي أن تكون النظرة نحو المشيخة, نظرة لاغلو فيها ولاقدسية, فعشق الرموز وتقديسها لم تكن أصلاَ من ثقافة البادية ولا من خصائصها, دون النظر الى مشروع هذا الرمز وأخطائه بالمقام الأول, وهذه القواعد لم يكن بالطبع معمولاَ بها لدى مشيخات الحاضرة لأسباب عديدة, يمكننا تلخيصه في سببين رئيسيين مهمين: 1- الديمقراطية في القبيلة" 2- "القبيلة ومفهوم المواطنة".

1- من المعروف أن المشيخة لدى المجتمع الصحراوي قائمة على مفاهيم وأعراف وسنن, ومن هذه الأعراف "الديمقراطية والشورى" التى تعتبر من الركائز الأساسية الذي قام عليه هذا النظام لدى المجتمع الصحراوي, وهذه الشورى أشبه اليوم بالنظام الجمهورى بحساب هذا الزمن, مع الأخذ بالإعتبار أن المشيخة سابقاَ وإن كانت أمراَ وراثياَ من حيث المبدأ, لكنها في المقابل هي مرتبطة إرتباطاَ وثيقاَ بمبدأ الشورى وحرية الرأي, وهذه حقيقة كانت المشيخات تعيها جيداَ, لذا نراها تتمتع بتسامح مطاط فى قبول أي معارضة أونقد قد يوجه اليها, بل ويتقبلون هذا بكل أريحية دون أي إنزعاج أو حرج قد يصدر منهم, فالإضطهاد والقمع والتسلط هي من الأمور المعدومة في المجتمعات القبلية بإستثناء الحقوق والعقوبات والغرائم, وهذا يدل ان الشورى والديمقراطية وحرية الرأي, هي ثقافة مترسخة في ثقافة تلك المجتمعات, وهي سمة متجذرة لديهم بالفطرة منذ القدم, وهذا مالاحظه بعض المسشرقين والرحالة الاجانب, الذين زاروا المنطقة وكتبوا عن القبائل وأحوالها, يقول الدكتورالمفكرعلي الوردي رحمه الله مشيراَ الى هذه الحاله :-

:"يجب أن لاننكر الى وجود نمط من الديمقراطية كان سائداَ بين البدو اَنذاك, وهو مايلائم طابع ثقافتهم الإجتماعية, وإن البدو إعتادوا أن لايخضعوا لأمر أي إنسان مهما كانت منزلته, فهم قد يحترمون رئيسهم القبلي ويتعاونون معه, إنما هم لايطيعونه طاعة عمياء كما يفعل الحضر تجاه أمرائهم قديماَ, وهذا يمكن أن نعده نوعاَ من الديمقراطية بمعنى من المعاني, فالبدو يقابلون الرئيس منهم ويجالسونه ويخاطبونه من غير إكتراث أو تادب(؟) فهم ينادونه بإسمه عادة أو بكنيته, وهذه ظاهرة إجتماعية مألوفة في البادية لايستغرب منها البدو, إذ هي منبعثة من طبيعة ثقافتهم الأصيلة, فالديمقراطية هي طارئة على الحضارة وليست أصيله فيها كما هي في البداوة" ثم يورد عدة أقوال نقلاَ عن المستشرقين الأجانب منها المستشرق البلجيكي هنري لامانس وقوله:"إن البدوي نموذج للديمقراطية" وقول المستشرق البريطاني "دي لاسي أوليري" الذي وصف الديمقراطية عند اهل البادية: "إنها ديمقراطية مبالغ فيها الى حد كبير" ويعلق الدكتورالوردي على هذه الأقوال قائلاَ:"إن النظام القبلي لم يكن يعرف الحدود أو القيود الطبقية كما هو موجود اليوم, فالبداوة كانت تقوم على أساس العصبية القبلية لا على أساس الطبقية الإجتماعية" لهذا نرى أن الاسباب الحقيقة وراء كثرة الصدامات والنزاعات القبلية الدائمة سببها مساحة الحرية والشورى بالدرجة الأولى, فكم من حروب نشبت,وخلافات حُلت, أونزاعات إنتهت بسلام, وما ذاك إلا بسبب تلك المبادىء والقيم وثقافة الحرية ,التي قد لاتوجد إلا في المجتمع القبلي حصراَ دون غيره.

2- إن النظام الإجتماعي الصحراوي هو مجتمع مترابط متماسك لاتمايز فيه ولاإختلاف, فهو يعيش بروابط القرابة ووحدة الدم والنسب الواحد, والفرد هو عنصر فعال مؤثر أياَ كانت منزلته أو مقامه في القبيلة, فلايوجد في المجتمع البدوي طبقية إجتماعية أوتمايز عرقي أو عنصري بين الأفراد, فمن الطبيعي ان نرى الفرد قد يفنى دفاعاَ عن قبيلته, والقبيلة قد تهب للدفاع عن احد أفرادها وتاخذ بثأره إذا ماتعرض لسوء, فمصلحة القبيلة تتطلب أن الكل في واحد والواحد في الكل, والسبب في هذا: أن مفهوم الوطن والمواطنة في المجتمعات القبلية, هو مفهوم مبهم غير محسوس, فالإنتماء والولاء والعاطفة هو للقبيلة وليس للوطن, وهذا المفهوم لاشك كان مبرراَ ومقبولاَ بمقاييس وظروف تلك المرحلة التاريخية السابقة,وفي هذا يذكر الدكتور سيد القمني في إحدى مقالاته عن هذا الجانب:-"إن الظرف المتمثل فى نظام قبلي وعصبية عشائرية كانت من لزوم مايلزم عن شكل المجتمع البدوي غير المستقر للإبقاء على دوام وجود القبيلة, بإعتبارها وحدة عسكرية يلزمها التماسك اللزج دوماَ, والذى كانت مادته اللاصقة رابطة الدم التى إكتسبت قدسية مفرطة وهو مايفسر الشكل الديمقراطي البدائي التى تمتعت به القبيلة بحيث وقف جميع الأفراد بداخلها على قدم وساق بمساواة تامة وبمعيار الإنتساب لأب واحد وذلك وحده كفيلاَ بإلغاء أي تمايز إضافة لظرف اَخر دعم هذه المساواة وهو مواجهتهم جميعاَ لذات المصير دوماَ كمقاتلين لذلك يصعب على البدوي التعامل مع مفهوم الوطن حتى لو استقر فى مكان وتوقف عن الترحال" ويعلق الدكتور الوردي قائلاَ: "إن القبيلة تقوم مقام الدولة في البداوة فالفرد يجد فيها الأمن والضمان والرعاية ومن لاينتمي الى قبيلة قوية في الصحراء قد ينتهي أمره الى الهلاك مهما كان في حد ذاته شجاعاَ قوياَ".

إذن: نستنتج من هذا: أن الفرد في المجتمع القبلي كانت له قيمتة الإعتبارية والمعنوية في قبيلته, ودوره كعنصر فاعل مؤثر, بوعيه الإجتماعي وثقته بنفسه, فبمقدارمايتوقع الفرد من القبيلة أن تشمله بحمايته والدفاع عنه, تتوقع القبيلة منه أيضا أن يمنحها الفداء والولاء إن هي إحتاجت اليه للدفاع عنها,فالمصلحة هنا مشتركة ومتبادلة بين الفرد والقبيله, فهو يتقوى بالقبيلة والقبيلة تتقوى به, لذلك لايوجد في القاموس الثقافي الصحراوي"كلمة انا" اومايسمى اليوم "بالفردية الاحادية", سواءَ في القول أو بالرأي أو الفعل, فالبدوي سابقاَ كان يقول"نحن" بدل أن يقول أنا؟! الأمر الثاني: وهو أن المشيخة حسب القواعد القديمة, كانت تمنح منحاَ لصاحب القدرات التي تناسب الظروف ومقتضياته, وغالباَ ماتكون هذه القدرات هي قدرات مكتسبة, ليست بالضرورة أن تنتقل بالوراثة, ولم أقف على مشيخة أوإمارة خصوصاَ عند قبائل البادية إلا أجدها قد جائت من هذا الباب, أي مايسمى اليوم "بالإنتخاب أوالإختيار" وهذا ربما يفسر لنا هذه المساحة العريضة من الديمقراطية البدائية التي كانت سائدة في المجتمع القبلي دون غيرها, فمن النادر أن نجد شيخاَ ما, كان مستبداَ بأمره, أو مستغلاَ لأبناء قبيلته, أو قاسياَ في معاملته لهم, لعلمه مسبقاَ ان لو فعل ذلك لتفرت منه القبيلة, اوانفضت من حوله والتفت حول منافسه, حيث تجعله شيخاَ مكانه, فالأصل كما يذكر ابن خلدون " أن الشيخ هو "متبوع لاقاهر" فهو يستمد وجاهته ورئاسته من التفاف قبيلته حوله,فليس لديه قوة أو حرس خاص يفرض بهم أمره على القبيلة" لهذا: فالمسافة بين الشيخ وأفراد قبيلته هي مسافة صفرية في الواقع لاتكاد تُذكر, فالمساواة هي حاضرة دائماَ في الثقافة الصحراوية, حيث يقف الجميع بداخلها على قدم وساق, بمساواة تامة دون تفرقة أو طبقية,وهذا كفيلاَ بإلغاء أي تميز بين المشيخة والفرد, فالكل هنا متساوون على قدم وساق بمقتضى معيار النسب ووحدة الدم والجذر الواحد.


وأخيراَ: يمكن القول أن ظهور بعض المفاهيم اليوم وبروزها بشكل واضح على المشهد الإجتماعي, ربما تكون من أبرز تلك المشاهد التى أدخلتنا في ماَزق ومشاكل في شتى نواحي الحياة, بإعتبار أن أغلب هذه المفاهيم لاتعدوا كونها ردة فعل دفعتنا اليها دوافع إجتماعية جبرية, قد نراها تؤذي نفوسنا,أو تجرح كبريائنا وتسبب لنا الضيق والألم, ولكي نستبعد هذا الشعور والألم من داخلنا, نزعنا الى تجريد بعض الثوابت من إطارها التاريخي, واستبدلناها بمجموعة من الفروض العمومية, والمفاهيم السطحية التي ليس لها أساس من الواقعية, فغالبها شديدة التباعد, عميقة التنافر, مخالفة تماماَ للموروث ومفاهيمه شكلاَ ومضموناَ وعرفاَ, لكننا إرتضيناها بناءَ على الحاجة وليس الى الرغبة, وهذه من الإشكالات التي جعلتنا نبني حول بعض هذه المفاهيم جداراَ من العزلة القدسية, كمناعة تحمينا ضد كل مايزعجنا, لعلنا لانضيع من صفحات التاريخ!!

التعديل الأخير تم بواسطة ابو مشاري الرفدي ; 05-31-2018 الساعة 04:06 AM
ابو مشاري الرفدي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس